قول التكفيريين ” قنوت النوازل واجب شرعي وهو أقل ما يُعان به إخواننا في ساحات الجهاد، فلماذا يُمنع منه في بعض الدول الاسلامية؟”
(ضمن دراسات شرعية موجزة حول شبهات الدواعش وتنظيم القاعدة وأنصار الشريعة وغيرهم من أهل التكفير)
الحلقة (18)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
الجواب على هذه الشبهة: أن بعض أهل العلم اشترط إذن ولي الأمر لقنوت النوازل، كما هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره كما سيأتي من كلام العلماء، وباعتبار أنه لم يثبت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء أنه قُنِتَ في غير المسجد الأعظم في البلد الذي يصلي فيه ولي الأمر، ومن ثم يتعدى القنوت لبقية المساجد بإذنه على قول عند النوازل والمحن، والمسألة اجتهادية فلا نحولها إلى قضية فتنة ومحاربة لمن لا يقنت، حتى أنتم أيها الخوارج منذ بداية ظهوركم في مصر والعراق زمن عثمان بن عفان إلى اليوم لم تقنتوا في كل النوازل، فلماذا هذه الصولة التي ليس وراءها سوى الفتن؟!!، رغم أن حياة النبي عليه الصلاة والسلام وحياة من بعده من الخلفاء الراشدين الأربعة ومن بعدهم إلى يومنا هذا لم تتوقف المحن والنوازل العظام، حيث تتجدد بين الحين والآخر كل سنة أو أكثر، ومع ذلك لم يقنت العلماء والأئمة في مساجدهم على مر الزمن في كل النوازل ولم يلزموا أحداً، لأن المسألة اجتهادية حسب فتوى كبار العلماء في كل بلدة.
وإذا كانت المسألة خلافية والعمل على فتوى معينة لها أدلتها ونظرتها الشرعية القائمة على الدليل في الدولة الفلانية، فإن إلزام الوالي بفتوى تخالف فتوى علماء دولته إلزام ما لا يلزم ، لكوني الوالي يرى فيها الحق باعتبار أن علماء بلده علماء مجتهدون ثقات وأئمة معروفون بالسنة والعلم والورع.
ومن ثم فعلى الناقد أن يكون من أهل العلم، فإذا كان كذلك جاز له أن يناقش مناط هذه المسألة وأدلتها ثم ما رآه مخالفاً لما عليه علماء بلده أو أي قطر إسلامي آخر ناظر عليه وحاور ذوي العلم والبصيرة بالحجة والحكمة دون تدخل مَن ليس من أهل العلم، فإذا ترجح خلاف الفتوى السابقة يقوم أهل الحل والعقد من العلماء برفعها للسلطان، وللسلطان جوابه الذي يطرحه على العلماء إن رأى خلاف الفتوى الجديدة لمصلحة راجحة لا تنافي الشرع المطهر ، ومن هنا يكون المدخل صحيحاً بدلاً من النقد الأجوف العاري من البينات والأدلة الصحيحة الذي يتفوَّه به بعض الشبيبة بدعوى الضغوط والأوامر الرسمية على العلماء.
يقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: ”الذي أراه أن القنوت عند النوازل يتوقف على ولي الأمر كما هو المشهور في مذهب الإمام أحمد…، وكذلك إذا أمر بالقنوت قنتنا، فالأولى في مثل هذا أن يُنتظر أمر الدولة بذلك، إذا أمر به ولي الأمر قنتنا وإلا فلا وبقاء الأمة على مظهر واحد خير من التفرق، لأنه مثلاً: أقنت أنا والمسجد الذي جنبي لا يقنت، أو نحن أهل بلد نقنت والبلاد الأخرى ما تقنت، ففيه تفريق للأمة، وجمع الأشتات من أحسن ما يكون، ولعل بعضكم علم بأمر عثمان – رضي الله عنه في آخر خلافته صار يتم الصلاة في منى، يعني يصلي الرباعية أربعاً ، فأنكر الصحابة عليه، حتى أن مسعود لما بلغه ذلك استرجع، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فجعل هذا من المصائب وكانوا يصلون خلفه أربعاً، فقيل لابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن: كيف تصلي خلفه أربعاً وأنت قد أنكرت عليه، فقال: ”إن الخلاف شر “([1]) فكون الأمة تكون على حال واحدة أفضل، لأن طلبة العلم تتسع صدورهم للخلاف، لكن العامة لا تتسع صدورهم للخلاف أبداً، فالذي أنصح به إخواننا أن لا يتعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، مع أن باب الدعاء مفتوح، يدعو لهم الإنسان في حال السجود بعد التشهد الأخير في قيام الليل، وبين الأذان والإقامة، يعني لا يتعين الدعاء في القنوت فقط، صحيح أن القنوت مظهر عام ويجعل الأمة كلها تتهيأ للدعاء، وتتفرغ له، لكن كوننا نخلي واحداً بهواه ونفرق الناس، هذا ما أرى أنه جيد” ([2]) اهـ
وسئل الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ فقيل له ”هناك قرارات صدرت من الوزارة مثلاً عدم القنوت في الصلوات، مع أنها ثابتة عند المصائب والمحن ما تعليقكم على ذلك؟
الجواب: كلامي في القنوت يمكن سمعتموه مراراً ونشر في الصحف وفيه قناعة شرعية ظاهرة أدلتها، لكن المخالف لم يأت بدليل ظاهر فيها من السنة، النبي صلى الله عليه وسلم حينما قنت، قنت فقط ومساجد المدنية الأخرى لم تقنت هذا أولاً.
وثانياً: الذي يقنت هو الإمام ونائبه… والأدلة في ذلك ظاهرة، لا يصح إلا بإذن ولي الأمر ، وهناك ثلاث مسائل في العبادات معروفة عند أهل العلم ليست مسألة القنوت فحسب بل قنوت النوازل
المسألة الأولى: إنه لا استسقاء ”طلب الغيث” إلا بدعوة الإمام الذي يدعو إلى الاستسقاء وهو الإمام أو نائبه، هذا ظاهر في أن الصحابة لم يستسقوا في عهده عليه الصلاة والسلام ولا من بعده إلا بطلب ولي الأمر، مع أن المسألة هي طلب سقيا، هذه يشترك فيها العامة لكن الأمر إذا كان فيه عموم ليس مقتصراً على بعض الأفراد فهذا مناط بولي الأمر، هذا ظاهر الأدلة وأحوال السلف والأئمة.
المسألة الثانية: مسألة الجمعة، إذا أجمع الناس فهل لهم أن يجمعوا في مسجد بدون إذن؟ ليس لهم ذلك.
المسألة الثالثة: القنوت، قنوت النوازل أيضاً ليس لهم أن يقنتوا إلا بإذن ولي الأمر في ذلك، وهذا ظاهر من حيث الدليل، بل إن الدليل وأنتم راجعوا السنة وانظروا، لا تجدون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء أنه قنت غير المسجد الأعظم في البلد، نحن لا نريد أن نجعل المسائل التربوية -أو نقول مسائل الأمة أو نحو ذلك- نجعلها هي التي تُسيِّر عباداتنا، هذه مسائل لها علاج ، لها حمية ، ولها في مكان آخر، لكن العبادات هذه منوطة بأحكام شرعية عبادية لا يجوز أن يُحدث فيها شيء، انظر مثلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما قنت إلا هو، وفي عهد عمر رضي الله عنه قنت هو، وفي عهد هذا أو هذا قنت بإذنه، هذا لما كانوا في البلد في الحاضرة، أما إذا كانوا في سفر أو كانوا في جهاد أو نحو ذلك فهذه المسألة ترجع لا إلى الأمير الأعظم [ بل ] إلى أمير السفر أو نحو ذلك لكنه في البلد الحاضرة ما فيه شك أن هذه مسألة ظاهرة من حيث الدليل ([3]) اهـ
ويتبين مما سبق أن هذه المسألة بهذا الحكم المقيد بإذن ولي الأمر لها وجهة نظر من حيث الدليل والمصالح المترتبة، والمسألة كما أسلفت قضية علمية تُدار بين كبار علماء كل بلدة وليست محل نقاش من هب ودب.
وعن كبار العلماء تصدر الفتوى لبلدهم حسب المصالح والمفاسد المترتبة والمبنية على أدلة الشرع وقواعده.
فإذا قامت الفتوى على مثل ذلك ونحوه واعتمدها ولي الأمر أو من خوَّله لزم العمل والانقياد وعدم الخروج على جماعة المسلمين في الدولة الفلانية دفعاً للمفاسد وجلباً للمصالح، ودفعاً للتفرقة وتشتت المسلمين في قضايا تحتمل الخلاف بين العلماء، بغض النظر عن كون الفتوى الفلانية قامت على دليل مرجوح عند الطرف المخالف، لكون ولي الأمر ومن حوله من العلماء اعتمدوا هذا الرأي لمصالح تخفى على عامة الأمة وإن جهلها من جهلها.
ولو فرضنا أنه لا دليل على القول بهذا الشرط فتبقى المصالح المترتبة من اعتبار الشرط لجمع الكلمة على طاعة السلطان ، لأنه إذا أمر بعدم القنوت في نازلة معينة لمصلحة راجحة فإنه يلزم طاعته، لكون الطاعة في ذلك من المعروف لما يترتب من المصالح المستفيضة بأهل بلدته.
قال شيخ الإسلام ” ويسوغ أيضاً أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفاً من التنفير عما يصلح كما ترك النبي عليه الصلاة والسلام بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حديثى عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك، ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم، وقال ابن مسعود لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال :” الخلاف شر” ([4]) اهـ.
قلت: وترك النبي عليه الصلاة والسلام بناء البيت على قواعد إبراهيم أعظم من ترك قنوت النازلة ، لأن الكعبة لما جرفها السيل بناها بعض كفار قريش قبل الإسلام على خلاف قواعد إبراهيم فرأى النبي عليه الصلاة والسلام عدم هدمها وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم خوفاً من التنفير وشتات القلوب مع أنه هو الذي يقول عليه الصلاة والسلام ” ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع“ ([5]).
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله: “فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه ، وإقامة الخير بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر ، وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز؛ لأن المقصود من الولايات كلها: تحقيق المصالح الشرعية، ودرء المفاسد، فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته وما هو منكر لا يجوز له”([6]).
ثم لو عدنا اليوم إلى تطبيق فتوى قنوت النوازل لحملها الكثير على الاستمرار بحجة أن الأمة في نوازل متتالية وخصوصاً في الآونة الأخيرة، ولو تأمل العاقل في تاريخ العهد النبوي والعهد الراشد والخلافة الأموية والعباسية وما بعدها إلى يومنا هذا لوجد أن النوازل تتابع من ذلك الوقت حتى يومنا هذا على بلاد المسلمين كما تقدم، ولا يعرف عن علماء الإسلام في تلك الأزمنة من أفتاهم باستمرار القنوت لأشهر كثيرة أو سنوات عديدة، وفرقٌ بين زماننا وزمانهم من حيث العلم وفهم الأحداث وإنزال الأدلة في مواضعها الصحيحة، لذا نجد أن بعض العصريين يكررون قولهم النوازل قائمة وليس هناك من يقنت ؟ مع أن الاستمرار في قنوت النوازل على الدوام خلاف السنة لحديث أنس قال: ”قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان“([7]).
وعنه رضي الله عنه قال: ”قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً حين قتل القُرَّاء فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزناً قط أشد منه”([8]).
وهي أطول مدة قنتها رسول الله عليه الصلاة والسلام في حياته، فلماذا اقتصر نبينا عليه الصلاة والسلام على شهر واحد رغم أنه لا دلالة في أن من دعا عليهم آمنوا بالله ودخلوا جميعاً في دين الإسلام، ولا دليل على أن الغزوات ومحن المسلمين توقفت في زمانه، فكيف يمكن القول باستمرارية القنوت اليوم باعتبار أن النوازل مستمرة؟!، وهؤلاء الطائشون يكررون هذه الشبهة وهم لا يقنتون على الدوام في مواطنهم كما علمنا عنهم، فلِمَ إذن الدندنة التي لا داعي لها؟!!!!
ومما لا شك أن السنة بسبب فهم خطأ أو قلة علم، قد يحولها البعض إلى بدعة أو فتنة، لذلك لزم مراجعة واستشارة كبار العلماء قبل إثارة مثل هذه المسائل التي قد تسبب فتنة تضر المجتمع وتفرقه.
والحاصل في هذا الباب: أنه يجب على الدعاة إلى الله وعامة المسلمين عدم إثارة ما يكون سبباً للفتن لفتوى لا تتوافق مع ما يراه البعض، ولا ينبغي أن يقال: إن هذه الفتوى ونحوها صدرت عن هوى أو ضغوط أو الزامات ونحوها مما يتفوّه به بعض المتسرعين.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
-------------------------
([1]) أخرجه أبو داود في سننه رقم (1960) من رواية عبد الرحمن بن يزيد بإسناد صحيح.
([2]) محمد بن فهد الحصين، الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية (ص135).
([3]) المصدر السابق، الموضع نفسه.
([4]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/437).
([5])أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1218) من حديث جابر.
([6]) فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز ، (8 /203) ، مقال بعنوان ” نصيحة الأمة في جواب عشرة أسئلة مهمة “.
([7]) متفق عليه.
([8])متفق عليه