حكم ” الانضمام لهيئة الأمم المتحدة “
(ضمن دراسات شرعية موجزة حول شبهات الدواعش وتنظيم القاعدة وغيرهم من أهل التكفير)
الحلقة (2)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
هيئة الأمم المتحدة منظمة عالمية تهدف حسب دعوى الغرب إلى حفظ السلام العالمي ومنع نشر الأسلحة والمحافظة على حقوق الإنسان ، ويندرج تحت هذه الأهداف العامة أهداف أخرى تشمل التعليم والتعاون بين دول الأعضاء في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية ونحوها من مهمات الأمور، ويحق لكل دولة مستقلة في العالم أن تنظم لهذه المنظمة بشرط احترام قوانينها، ولكل دولة ما تراه من الدين والعادات والتقاليد، ولا تُلْزِم دول الأعضاء بالتخلي عن دينها وعقائدها لكنها تدعو الجميع إلى احترام الأديان والتعاون مع جميع الدول بما يحقق السلام العالمي، هكذا جاء في لوائحها.
وجميع الدول العربية تعتبر ذات عضوية فاعلة لدى منظمة الأمم المتحدة ، ولكل دولة ممثلٌ عنها في مقرها الرئيس بالولايات المتحدة الأمريكية.
ولسنا بصدد الحديث عن تاريخها ولماذا قامت ؟ ومتى قامت ؟ وبسط مفاهيمها وأعمالها سواء كانت شرعية أو غير شرعية؛ وإنما بصدد بيان الحكم الشرعي في الانضمام إليها، والرد على من يدعي من الدواعش وتنظيم القاعدة وغيرهم من أهل التكفير أن مجرد الانضمام إليها يعد كفراً. ولتوضيح ذلك يتأكد علينا معرفة أمور :
الأول: ماذا يعني الانضمام لمنظمة هيئة الأمم المتحدة ؟
الثاني: متى تكون قرارات الأمم المتحدة ملزمة، ومتى لا تكون ملزمة؟
الثالث: ماذا يبني على عدم الانضمام لمنظمة هيئة الأمم المتحدة ؟
والجواب عن ذلك كله من خلال معرفتنا العامة : أن كل دولة تنضم لهيئة الأمم المتحدة يحق لها ما لغيرها من الدول الكبرى من حيث الاعتراف بسيادتها وحفظ حقوقها وعدم التدخل في شؤونها بموجب الدساتير الدولية، ولا تكون كل قرارات الهيئة ملزمة لأي دولة في شيء يخص دينها وعقيدتها وشؤونها الداخلية إلا ما كان فيه انحيادية وتدخل في شؤون أخرى لا تعنيها أو تمس غيرها بالأذى .
وعدم الانضمام إلى هذه الهيئة يعني عدم الاعتراف بسيادتها مما يجعلها لقمة سائغة للآخرين وذريعةً للتدخل في شؤونها الداخلية ، على أن هناك مطالبات من الأمم المتحدة تطالب بها جميع الدول ولا تكون ملزمة ، بل يحق لأي دولة في العالم أن ترفضها وتبرر الرفض.
ولما اطلع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- على مسودة الوثيقة المقدمة من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة رفض ما جاء فيها من بنود، وقد أعلنت السعودية واليمن وكافة الدول الاسلامية والعربية رفضها لكل ما ورد فيها من بنود تتصادم مع الشريعة والفطرة والعقل السليم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله – : ” وقد تبنت مسودة الوثيقة المقدمة من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية ، وأحكام ضالة في سبيل تحقيق ذلك ، منها : الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميز بين الرجل والمرأة على أساس الدين ، والدعوة إلى الإباحية باسم: الممارسة الجنسية المأمونة، وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة ، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين ، وأن الدين عائق دون المساواة . إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر والضلال المبين ، والكيد للإسلام وللمسلمين ، بل للبشرية بأجمعها وسلخها من العفة ، والحياء، والكرامة.
لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين ، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم أن يقاطعوا هذا المؤتمر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو الفاجر، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين([1]).
وبالفعل لم تطبق هذه الوثيقة في البلدان العربية والاسلامية، ولم تكن ملزمة لكونها مخلة بالدين ، وهذا فيه دلالة واضحة على أن ما يصدر عن هيئة الأمم المتحدة من المطالبات التي تتعارض مع عقائد وسلوكيات البلدان لا يكون ملزماً، ولكل دولة حق الرفض مع التبرير بما يوافق دينها ومعتقداتها، وأمثلة ذلك كثيرة.
ولا يعني ذلك أن الأمم المتحدة ودول الكفر يحترمون الإسلام؛ بل يتمنون لو أزيل من على وجه الأرض، وهذا مصداق قوله تعالى ” وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ “([2]).
وإنما القصد من ذلك أن قراراتهم المنافية للدين لا تُلزم دول الأعضاء بقبولها جملة وتفصيلاً، وللجميع حق الرفض مع التبرير بما يوافق دينهم ومعتقداتهم.
فإذا علمنا ذلك صار معلوماً لدينا جميعاً أن قضية الانضمام لهيئة الأمم المتحدة بمثابة ما يعود على المسلمين بالمصالح، ورفض ما يخالف الدين، وصار هذا الانضمام بمثابة هدنة أو تصالح أو تحالف أو عهود لا تمس الدين ، وهذه مسؤولية ولاة الأمر.
قال شيخ الإسلام ” فإن بني آدم لا يمكن عيشهم إلا بما يشتركون فيه من جلب منفعتهم ودفع مضرتهم؛ فاتفاقهم على ذلك هو التعاقد والتحالف … فأما إذا كان القول على الشريعة التي بعث الله بها رسوله في دينهم ودنياهم فإن ذلك يغنيهم عن التحالف إلا عليها، فعليها يكون تحالفهم وتعاقدهم وتعاونهم وتناصرهم… لكن هذا إنما كان ظاهراً في أيام الخلفاء الراشدين ، وبعدهم كثرت العقود الموافقة للشريعة تارة والمخالفة لها أخرى، فلا جرم أن الحكم العام في جميع هذه العقود أنه يجب الوفاء فيها بما كان طاعة لله ، ولا يجوز الوفاء فيها بما كان معصية لله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة ” ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق “([3])اهـ
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله ” بل كل دولة تنظر في مصلحتها، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء ، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر ، فلا بأس في ذلك .
وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك.
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين ، سواء كان ملكاً أو أميراً أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر ، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر؛ عملا بقول الله عز وجل : ” إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا”([4]) ، وقوله سبحانه : “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا “([5]).
وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر … وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين ، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس ، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية – إن كانوا من أهلها – فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتال وترك الجزية ، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى : “قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ “([6]) ، وقوله عز وجل : ” وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ “([7]) إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك ، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح ، ومع اليهود حين قدم المدينة يدل على ما ذكرنا([8]).اهـ
والحاصل : أن الانضمام لهيئة الأمم المتحدة يُعد كفراً إذا اعتقد الوالي صحة كل ما يصدر عنها مما يخل بديننا الحنيف، أما مجرد انضمام لمصلحة أو مصالح مترتبة لأهل الإسلام، وذلك وقوفاً عند مواثيق دولية لا تخالف الدين أو فيها مصلحة راجحة للمسلمين، فلا حرج من ذلك وهذا من صلاحية ولاة الأمر في حدود المصلحة غير المنافية للدين كما تقدم.
وقد ناشد سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله المسلمين في نصرة إخوانهم في البوسنة والهرسك وذكر الحكام بالمواثيق الدولية التي تمنح شعب البوسنة حقها كما في لوائح منظمة الأمم المتحدة فقال رحمه الله ” فالله الله أيها الحكام المسلمون، انصروا إخوانكم ، وقفوا في صفهم، وادفعوا العدوان عنهم ، وطالبوا المجتمع الدولي باستعمال نفوذه في إيقاف الصرب عن عدوانهم، وإنزال أشد العقوبات بهم حتى يقفوا عند حدهم، ويلتزموا بالمواثيق الدولية التي التزم بها المسلمون في البوسنة والهرسك([9])اهـ.
ولا يقصد بذلك التحاكم إلى المحكمة الدولية ورد شريعة الإسلام؛ وإنما يقصد المواثيق التي فيها مصلحة لهذه الأمة ورد الباطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز ، والمقال كان رداً على مؤتمر بكين للمرأة عام 1416هـ ، (9 /203).
[2] سورة البقرة، آية (120).
[3] قاعدة في المحبة لابن تيمية (ص121-129)، والحديث متفق عليه من حديث عائشة ، واللفظ لمسلم.
[4] سورة النساء ، الآية رقم (58).
[5] سورة الأنفال ، الآية رقم (61).
[6] سورة التوبة ، الآية رقم (29).
[7] سورة الأنفال ، الآية رقم (39).
[8] فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (8/224 وما بعدها).
[9] كلمة لابن باز بعنوان ” دعوة إلى المبادرة بإسعاف المسلمين في البوسنة والهرسك” كما في المصدر السابق.