الحديث المرسل وأحكامه
الحلقة (19)
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
ما زال الحديث عن أقسام المردود بسبب السقط، وإليكم القسم الثاني الذي بسبب السقط: وهو المرسل.
والمرسل: هو إسقاط من بعد التابعي قائلاً قال رسول الله أو فعل ونحوه، وهو أولى التعريفات وأتقن ولا يشترط أن يكون المُرْسِل تابعياً كبيراً.
وللعلماء فيه آراء فمالك وأبو حنيفة وبعض الفقهاء والأصولين احتجوا به مطلقاً، وقوم ردوه مطلقاً.
وقال جمهور المحدثين ومنهم الشافعي وهو الذي استقر عليه جماهير المتأخرين من أهل الحديث: إنه ضعيف لاحتمال أن يكون الساقط ضعيفاً إلا إن اعتضد، بشرط أن يكون المُرْسِل من التابعيين الكبار الذي إنْ سَمَّى مَنْ أرسل عنه سمى ثقة، ولم يخالف من شاركه في الرواية.
مضافاً إلى ذلك أن يأتي من وجه آخر مسنداً أو مرسلاً عن غير رجال المُرْسِل الأول؛ لاحتمال أن تكون روايتهما عن شيخ واحد هو بعينه صاحب الإرسال ليس غير، وهذا في الجملة مذهب قوي.
قال السيوطي في تدريب الراوي نقلاً عن النووي: فإن صح مخرج المرسل بمجيئه أو نحوه من وجه آخر مسنداً أو مرسلاً أرسله مَنْ أخذ العلم عن غير رجال المُرْسِل الأول، كان صحيحاً هكذا نص عليه الشافعي في الرسالة مقيداً له بمرسل كبار التابعين، ومن إذا سمى من أرسل عنه سمى ثقة، وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لم يخالفوه، وزاد في الاعتضاد أن يوافق قول صحابي أو يفتي أكثر العلماء بمقتضاه فإن فُقِدَ شرطٌ مما ذُكِر لم يقبل مرسله.
ويتبين بذلك صحة المرسل وأنهما صحيحان لو عارضهما صحيح من طريق رجحناهما عليه إذا تعذر الجمع([1])" اهـ
قلت: يشترط في المسند أن يكون صالحاً في الاعتبارات، وأما المرسل الآخر فلا بد أن يكون صحيحاً إلى المرسِل، وإلا لا فائدة من اعتضاد المرسَل بالضعيف مثله.
ثم لو صح السند إلى مَنْ أرسله، وجاء نفسه من وجه آخر مرسلاً ضعيفاً سواء كان خفيفاً أو شديداً فعلة الإرسال لازالت قائمة.
ولا يكون الحديث حسناً لغيره حينها، ولا يصلح اعتضاده بقول صحابي أو فتوى جمهور العلماء لأنه فقد شرطاً أساسياً لا بد منه، ولا يشترط في التابعي المرسل أن يكون كبيراً على الصحيح.
ومثال المرسل: حديث "في ديننا أن نجز الشارب وأن نعفي اللحية" أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف
قلت: وهو من مراسيل التابعي الكبير عبيد الله بن عتبة.
كما روي مرسلاً من طريقين آخرين:
الأول: عن يحيى بن أبي كثير. أخرجه الحارث في مسنده.
وفي إسناده: عبد العزيز بن أبان أبو خالد الأموي الكوفي أحد المتروكين.
الثاني: عن يزيد بن أبي حبيب. أخرجه ابن جرير في تاريخه.
وفي إسناده: محمد بن إسحاق لا يعتمد عليه في السير وهو في غيرها حسن الحديث إن صرح بالتحديث، ولم يصرح في هذه الرواية .
وللحديث شاهدان:
الأول: عن أبي هريرة أخرجه ابن بشران في الأمالي.
وإسناده ضعيف جداً فيه من لا يعرف حاله.
وفيه أيضاً: عصمة بن محمد المديني وهو ضعيف.
الثاني: عن ابن عباس أخرجه ابن النجار في تاريخه.
ولم أقف على سنده في تاريخ ابن النجار ولا أظن أنه يستقيم سنده عنده، ولم يطبع كتاب التاريخ سوى بعض نسخ ذيله ويغلب على الكتاب أنه مفقود كاملاً حتى الآن ولله العلم من قبل ومن بعد.
والحاصل: أن الحديث حسن لغيره.
فقد اجتمع لنا من مجمل هذه الروايات طريقان: لا بأس بهما:
الأول: من طريق عبيد الله بن عتبة.
وإسناده: صحيح لولا علة الإرسال.
الثاني: من طريق يزيد بن أبي حبيب.
وإسناده: حسن لولا علة الإرسال وعدم تصريح ابن إسحاق.
ولا شك أن هاتين الروايتين ترتقيان بالحديث إلى درجة الحسن لغيره.
وقس أمثال ذلك من الروايات الأخرى في مسألة الحديث المرسل.
ويخرج عن مرسل التابعي مرسل الصحابي: وهو رواية الصحابي حديثاً عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لم يسمعه منه وإنما سمعه من صحابي آخر إما لكونه كان صغيراً أو متأخر الإسلام ونحو ذلك، فهذا حجة لكون الصحابة عدولاً.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، (1/ 198 ، 199).