صفات العالم الرباني المؤثر
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (30)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
يجب على العاملين في الحقل الدعوي أن يدركوا صفات معلم الناس الخير لكي يتصفوا بها؛ وهي كثيرة، ويتلخص أهمها في الآتي :
الصفة الأولى: الإخلاص.
وهو المقصود من قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة:5].
فـ «ما كان لله بقي واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل» كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله.
الصفة الثانية: العلم والعمل به.
قال الله تعالى: (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108].
قال ابن سيرين: «إن قوما تركوا العلم واتخذوا محاريب، فصلّوا وصاموا بغير علم، والله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح»([1]).
ويُحكى عن لقمان أنه قال: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء ([2]).
فلا يحل لداعية أو عالم أن يحمل الناس على مذهبه وقوله ورأيه، وإنما يحملهم على العلم القائم على الكتاب والسنة، فإن حمَلَهم على مذهبه ورأيه فإنه لم يعمل بالعلم، وهذا باب غفل عنه كثير من المتعلمين.
الصفة الثالثة: الخوف والورع.
الخوف والورع صفتان متلازمتان، يجب وجودهما معا في كل داعية، وهما من شروط علم الجرح والتعديل في العالم المجرح؛ حيث يلزمه قبل أن ينقد غيره أو يجرحه أن يكون ورعاً حال نقده، فقد تورع علماء عن تجريح آخرين ممن يستحق الجرح، وتركوه لمن يرونه أعلم وأورع منهم، خوفاً من الظلم، وتورعاً من الزلة، لأن الحكم على الآخرين باب عظيم من أبواب الفتيا والقضاء اللذين كان السلف يتورعون عنهما.
ولذلك فالجرح: يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى وحب الظهور والانتقام والتشفي.
وقد اشترط العلماء في الرجل العالم الذي له حق التجريح أربعة شروط:
الأول: أن يكون الرجل ثقة في نفسه غير مجروح العدالة، فإن كان مجروحاً فلا يعتدُّ بقوله.
والثاني: أن يكون عالماً تقياً ورعاً، فلا يجرح لهوى أو حسد أو غرض دنيوي.
والثالث: أن يكون عارفاً بأسباب ودواعي التجريح.
والرابع: ألا يُعرف بالتعصب المذهبي.
فإذا اتفقت هذه الشروط كلها في الشخص حُقَّ له أن يكون مجرحا إن تصدر هذا الفن وشهد له العلماء بذلك، لأن مثله سوف يتصف بالعدالة والأمانة، وأما غيره فلا يحل له أن يخوض في مسالك كهذه؛ بل يترك ذلك لأهل الشأن والبصيرة؛ فهم أعرف بحال ومصلحة الأمة، وأن ينكبَّ على طلب العلم على أيدي علماء موثوقين، فإن أوقاتا عديدة تضيع على شباب الإسلام في الخوض فيما لا يعنيهم وفيما لم يُكلفوا به شرعا.
الصفة الرابعة: الحلم والأناة.
وهاتان صفتان مطلوبتان في العلماء والدعاة وطلاب العلم، فإن المتعجِّل في الأمور لا يحسن توجيه غيره.
قال الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: «ومن يرزق الحلم ترقى في درجاته، فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه. ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو ضعف، وأن الإعراض عن الجهل خوف وخور، ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم، يتنافى مع الحلم كما ترى»([3]).
وفي صحيح مسلم يقول النبي – عليه الصلاة والسلام – لأشج عبد القيس «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة»([4]).
فالحلم والأناة صفتا العقلاء الذين يمعنون في الأمور قبل الخوض فيها.
قال الشافعي: «استخرت الله في الرد على مالك سنة »([5]).
تأنَّ ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عذرًا وأنت تلومُ
الصفة الخامسة : الإنصاف.
الإنصاف في زماننا عزيز؛ لأن الأنفس أحضرت الشح عند النقد والخصام، وقلَّ من ينصف في الأمور.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [ النساء: 135].
فعلى الداعية أن ينصف غيره إذا نقده، فلا يبالغ في النقد وتحجيم القضايا؛ بل بلزمه التوسط والاعتدال في الأمور كلها مع مراقبة الله عز وجل في كل شئ يقوله، لأنه غداً موقوف بين يدي الله وسائله عن كل شئ قاله.
وقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في الإنصاف :
ومن ذلك إنصافه صلى الله عليه وسلم واعتذاره لحاطب بن أبي بلتعة الذي «كتب إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تُبلِّغه قريشا»([6]).
فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فرد عليه بقوله: «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([7])، وقد جاء أن النبي صلى الله علي وسلم سأل حاطباً ليتبين هل له من عذر أو دافع يخرجه من مأزق ما ظاهره الموالاة للأعداء التي قد يظنها البعض، وهذا من إنصافه عليه الصلاة والسلام، فقال له: «يا حاطب، ما هذا؟ » قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، وكان ممن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم»([8]).
الصفة السادسة: حسن الخلق. وهي «صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصدّيقين وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين»([9]).
وبها تميز أهل السنة حتى سطروها في كتب العقائد كما فعل ابن تيمية في «العقيدة الواسطية».
وقد أحسن من قال:
أحب مكارم الأخلاق جهــــدي وأكره أنْ أَعيبَ وأنْ أُعابا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حلماً وشرُّ الناسِ مَن يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبــــــوه ومن حقر الرجال فلن يهابا
فلن ينجح الداعية في نقده ودعوته إلا بإقامة الأخلاق الفاضلة ونشرها بين المجتمعات الإسلامية، لأنها من متممات الدين ومحاسنه التي شرعها الله وحثَّ عليها في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لذا يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثثُ لأتمم مكارم الأخلاق»([10]).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسطُ الوجه وحسن الخلق»([11]).
وقد أحسن من قال:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثـــــناء فإنــــــــه لك باقِ
لو أنني خيرت كل فضـــــيلــــةٍ ما اخترت غير مكارم الأخلاقِ
الصفة السابعة: الحكمة.
وهي الإصابة في القول والفعل، أو هي وضع الشيء في موضعه، (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [ البقرة: 269].
وقد اتصف بها العلماء الربانيون، وغابت عن بعض الدعاة اليوم ممن لا يعرف إلا لغة العنف والقسوة على المخالف.
لذا يجب على العلماء والدعاة إلى الله أن يَعُوا حقيقة الحكمة ومفهومها وكيفية مخاطبة المجتمعات على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وأن يزنوا كلماتهم بميزان الحاجة الشرعية، وأن تكون التوجيهات والنصائح حسب مقتضى الحكمة.
فإن من أهم مقتضاها في هذا الباب: أن يعوا أن الكلمة التي تصدر منهم قد تبلغ مشارق الأرض ومغاربها في دقائق معدودة نظرا لتنوع وكثرة وسائل الاتصال في العصر الحديث، مما يقتضي التروي والتثبت قبل النقد حتى لا تصد بعض كلماتهم الناس عن الخير، وقد ثبت في الحديث: «إياك وما يُعتذر منه»([12]).
فقد يكون الداعية المجروح – ظلما – : قائماً بدعوة الاسلام في غالب أمره في بلاد الكفر أو البلدان التي انتشرت فيها البدع والضلالات والكفر وأهل السنة فيها قليل فيؤدي هذا النقد غير العدل إلى صرف الناس عن الانتفاع منه، وربما أدى ذلك لإقبالهم على أهل البدع والضلال، وقد حصل مثل ذلك كثير، وهذا إفساد عريض وصد عن سبيل الله، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وقد قيل: من عُرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.
الصفة الثامنة : الحذر من التزلف للسلطان أو الانتماء الحزبي.
وهذان مرضان يخلان في كون الداعية ربانياً مؤثراً لأن المتزلف للسلطان سيبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ولأن الحزبي في الجماعة الحركية سيبرر أخطاء الجماعة على حساب الدين، وهذا ما نئن منه اليوم.
وقد كان سلفنا الصالح يحذرون من إتيان أبواب السلاطين إلا في مواطن لا بد منها: كالإنكار عليه بالحكمة، أو توجيهه، أو مشاورته في قضايا مصيرية، ونحوها من الأمور التي تهم البلاد والعباد، يقوم بذلك العلماء والدعاة الورعون وغيرهم من الأعيان وأهل الحل والعقد.
قال الفضيل: «شر العلماء من يجالس الأمراء، وخير الأمراء من يجالس العلماء»([13]).
فعليكم بمجالسة العلماء بعيداً عن أبواب السلاطين ومقرات القيادات الحزبية الحركية حفاظاً على دينكم واجتماع كلمتكم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
هذه أهم الصفات التي لا بد من توفرها في الداعية الرباني المؤثر.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم، وللكلام بقية أستأنفه في لقاء قادم بإذن الله.
—— الحواشي —–
([1]) ابن رجب، لطائف المعارف (ص117).
([2]) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (1/50).
([3]) صالح بن عبد الله بن حميد، مفهوم الحكمة في الدعوة (ص11).
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه.
([5]) ابن حجر، توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس (ص147)، قال البيهقي. كما في توالي التأسيس ص 147 -: «إن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك (أي الرد على مالك) لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستسقى بها. وكان يقال لهم : «قال رسول الله». فيقولون: «قال مالك». فقال الشافعي : «إن مالك بَشرٌ يخطئ»، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه».
([6]) ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد (3/398).
([7]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي.
([8]) هو جزء من الحديث السابق.
([9]) الغزالي، إحياء علوم الدين (3/49).
([10] ) أخرجه أحمد في مسنده [ مسند أبي هريرة (2/381 رقم 8939)]، والحديث صحيح.
([11] ) أخرجه أبو يعلى في مسنده [ مسند أبي هريرة، حديث شهر بن حوشب عن أبي هريرة (11/428 رقم 6550]، والحديث حسن لغيره إن شاء الله.
([12] ) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، جد إسماعيل الأنصاري ( 4/94 حديث رقم 2249 )، كما أخرجه غيره، وقد حسَّنه ان حجر والألباني وغيرهما.
([13] ) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (1/50)