تنازع العلماء في مسألة: “الخوض في الانتخابات البرلمانية”
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة (11)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
تكلمت في حلقة البارحة عن المسألة السادسة التي حصل بسببها الاختلاف في صفوف السلفيين، وهي مسألة : ” التعاون في المجال الخيري مع بعض مؤسسات المخالفين “، واليوم سأتحدث عن المسألة السابعة التي حصل بسببها الاختلاف في صفوف السلفيين، وهي مسألة: ” الخوض في الانتخابات البرلمانية “، فأقول وبالله التوفيق :
عامة مشايخ ودعاة السلفيين في العصر الحديث يرون أن الخوض في الانتخابات البرلمانية نوع من الخوض في الباطل وإقرار على جواز العمل وفق النظام الديمقراطي المنافي للشرع، وبالتالي فلا يخوض في ذلك إلا دعاة خرجوا عن منهج ودائرة السنة، ولدراسة هذه المسألة فتحرير محل النزاع مطلوب شرعاً بأدلة الكتاب والسنة بعيداً عن التأثر بأحداث ومشاكل العصر، فالإسلام دين صالح لكل زمان ومكان وهو مصدر الرقي والتقدم والازدهار مهما تغيرت الحياة بكافة وسائلها المستحدثة وتطورت بتطور الزمن.
ولذا : فلا شك أن الأصل في الانتخابات البرلمانية الحرمة لأنها نظام ديمقراطي مستحدث يتعارض مع نصوص الشريعة السمحة إلا أننا نستثني ونقول : إذا كانت لمصلحة راجحة فتكون الفتوى فيها بمحضر مجموعة من كبار العلماء حسب كل بلدة بعد النظر في المصالح والمفاسد، فما دعت له الضرورة فإنه يقدَّر بقدره دون تعميم الفتوى لكل زمان ومكان؛ بل تختلف البلدان وأحوالها، فالعلماء في بلدهم يدرسون واقعهم على ضوء الشريعة ومقاصدها، ويصدرون الفتوى الشرعية بمحضر أهل الفتوى في بلدهم وفق قاعدة « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
وبنحو ما ذكرت، قال الشيخ عبد المحسن العباد:« إذا كان دخول المسلمين يرجح جانب الخير للمسلمين فيدخلون، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فإنهم لا يدخلون، وإذا كان دخولهم يسهم في إبعاد من هو شر وتحصيل من هو أقل شرّاً وأخف ضرراً، وحتى لو كان من الكفار أنفسهم كما في البلاد التي فيها أقلية مسلمة، ويكون الأمر دائراً بين كافرين، أحدهما: شديد الحقد على المسلمين متى وصل إلى السلطة إذا حال بينهم وبين القيام بعباداتهم على الوجه الذي ينبغي، والثاني: ليس كذلك – متسامح مع المسلمين، [و] ليس عنده حقد شديد عليهم، ومعلوم :أن الكفر درجات كما أن الإيمان درجات، الكفر يتفاوت [فيه] الكفار، والإيمان يتفاوت الناس فيه، فإذا كان الأمر بين اثنين، ودخول المسلمين يرجح ذلك الهين على المسلمين فلهم أن يدخلوا، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فليتركوه، فدخولهم ليس لاختيار خليفة، فإن هؤلاء الكفار متسلطون، لكن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما مطلوب، ومعلوم أن الله ذكر في القرآن فرح المسلمين بانتصار الروم على الفرس، والاثنان كفار، لكن لماذا يفرح المسلمون بانتصار الروم على الفرس؟ لأن هؤلاء مجوس كفرهم شديد وكفرهم عظيم ، وأعظم الكفر ناحية المشرق كما قال رسول الله [عليه الصلاة والسلام]، وملك الفرس مزق كتاب رسول الله لما جاء إليه ، وأما ملك الروم احتفظ بالكتاب، ففرق بين كافر شديد الكفر على المسلمين وكافر خفيف الضرر على المسلمين، فإذا كان دخولهم ينفع في تحصيل من هو أخف ضرراً فإنهم يدخلون ، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فإنهم يبتعدون » ([1])اهـ.
وقالت اللجنة الدائمة وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز بن باز: « لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك الحكومة التي تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة »([2]).
وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: « ونحن لا ننصح مسلماً أن يُرشّح نفسه في هذه الانتخابات في كل البلاد اليوم، لأن الحكومات لا تحكم بما أنزل الله ، لكن أنا أعلم أن هذا الرأي لا يقتنع به كثيرون من طلبة العلم ومن الدكاترة ومن كذا إلى آخره ، حينئذ سنرى في الساحة ناسا يرشحون أنفسهم من الإسلاميين ، سواء كانوا من هؤلاء أو هؤلاء أو هؤلاء، حينئذ يجب علينا أن ختار من هؤلاء الذين نزلوا في ساحة الانتخابات ، نختار منهم الأصلح ، ولا نفسح المجال لدخول الشيوعيين والبعثيين والدهريين والزنادقة ونحو ذلك » ([3]).
ولعلي بما تقدم قد أزلت الغواش الذي عشعش في أذهان بعض المشايخ الفضلاء الذين لم يدرسوا هذه المسألة دراسة فقهية أصولية متأنية وفقاً لأدلة الشرع المطهر القائم على قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وكذا قاعدة : ” ارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما”، ومما لا يخفى أن الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها جاءت لتحقيق المصالح للعباد وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة، لم يصح وصفها بأنها شريعة سمحة مطهرة.
ولا تفهموا من كلامي المتقدم أني أدعو المشايخ أن يرشحوا أنفسهم في الانتخابات فمقامهم أشرف واعلى وعليهم أن يتفرغو للدعوة وتعليم الناس الخير، وإنما أن يختار أفراد المجتمع الأصلح والأنفع للعباد والبلاد وفق ما تدعو له المصلحة، وتدفع به المفسدة.
وقد بلينا اليوم ببعض الفتاوى الارتجالية الطائشة التي لا تنزل على رأي مجتهدي العصر، فتفسد وتفرق أكثر مما تصلح وتوحد، وإلى الله المشتكى.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
([1]) العباد، شرح سن الترمذي، كتاب الصلاة، شريط رقم:64.
([2]) فتاوى اللجنة الدائمة ( 23/407 فتوى رقم 4029).
([3]) الألباني، سلسلة الهدى والنور – الشريط رقم: (221)