إنشاء قنوات فضائية شرعية
ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكري
الحلقة (19)
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
قد يتعجب البعض لطرحي هذا الموضوع، لكني طرحته من واقع حياتي، فقد زرت قبل أربع سنوات أحد المشايخ الأجلاء ممن لهم قدم صدق وسبق في العلم والتربية ويُعد من مشايخي الذين استفدت منهم من خلال كتبه واستشاراته، ولما وصلت داره قال لي أعلن توبتك الآن، وكان المجلس مكتظاً بالفضلاء، فقلت له: أستغفر الله وأتوب إليه، ولكن ما هو الشيء الذي أعلن منه توبتي؟ فقال: من الظهور على القنوات ومن القناة الاسلامية التي تظهر فيها أنت وبعض المشايخ؟ ثم دار بيني وبينه نقاش طويل، خلاصته أنه يرى تحريم التصوير والظهور على القنوات الفضائية ولو لأجل تبليغ الدعوة.
فأحببت في هذا اللقاء أن أضع بين أيديكم هذه المسألة كي ندرسها من ناحية شرعية موجزة، فأقول وبالله التوفيق:
هناك بعض الفضلاء يرى في عصرنا الحاضر أن القنوات الفضائية محرمة ولا تجوز بحجة أن التصوير المرئي محرم، حتى وإن كانت قنوات شرعية خالية من المحظور الشرعي.
وبسبب هذا الرأي اتهم بعض الفضلاء من يقوم بإنشائها أو الظهور عليها بألفاظ كقول بعضهم: فيه نظر، أو أنه مفتون بمجالسة الحزبيين، أو مميع للدعوة، حسب اختلاف العبارات من شخص لآخر، ويستثنون من التهم بعض العلماء والدعاة الذين يرون أنهم أخطأوا بظهورهم في تلك القنوات، ولكن لا يُشْهِرون الكلام فيهم بحجة أن نقدهم على الملأ قد يكون سلبيًّا عليهم كمجرحين نظرا للتقليد أو مصلحة انتمائية أو لدفع مفسدة شخصية ونحوها من الأمور الأخرى.
وقد يكون لبعض العلماء رأي قديم بالمنع، ورأي جديد بالجواز، أو للعالم رأيان متباينان، فيظل المقلد على الرأي القديم، ويتعصب لرأي دون آخر ويعادي في سبيله، ويُجرِّح كل من خالفه، وكأن الحق معه وحده ليس غير، وهذا مرضٌ خال من الإنصاف والعدل الذي أمر الله به في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل:90].
ولا شك أن التصوير التلفزيوني ومثله الفوتوغرافي من الأمور المختلف فيها في عصرنا الحاضر، رغم أننا نميل للقول بترك التصوير التلفزيوني، ومن باب أولى الفوتوغرافي لولا المصلحة الدعوية في التصوير التلفزيوني - خصوصا في عصرنا الحاضر -.
فبتصوير المحاضرات والندوات والدروس وما ينفع الناس وبثها عبر القنوات الشرعية التي تم انشاؤها ندفع أعظم المفاسد وكذلك الظهور على شاشاتها بقصد تبليغ الدعوة وإنكار المنكرات وتربية المجتمعات تربية إيمانية على المنهج الوسطي، وخصوصا أن تلك البيوت قد دخلتها قنوات فاجرة، أفسدت على الناس عقائدهم وأخلاقهم وأبعدتهم عن وحي الكتاب والسنة، فدفعاً لهذه المفاسد تم إنشاء مثل تلك القنوات الشرعية المحافظة.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "عند رجاء المصلحة العامة في تصوير الحفلة أو الندوة أو المجتمع الإسلامي الذي فيه الدعوة إلى الله، إذا رؤي في هذا أن المصلحة أكثر وأن هذا التصوير يترتب عليه الخير ونفع الناس، وانتفاعهم بهذا الحفل أو هذه الندوة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله"([1])اهـ.
وقال رحمه الله: "الأشرطة التي تحتاج إلى التصوير مثل أشرطة الفيديو إذا دعت الحاجة إلى ذلك وسجل عليها من الندوات النافعة والمحاضرات النافعة ما ينفع الناس فلا حرج في ذلك، من باب تقديم المصلحة العظيمة على ما في التصوير من المضرة والمنكر، فالمقصود من هذا كله أن إيجاد فيديو ينفع الناس قد سُجِّلَ فيه، وقد جُعِلَ فيه من العلوم النافعة والمحاضرات المفيدة والندوات الصالحة خير من تركه وإتلافه بدون فائدة، هذا المقصود" ([2])اهـ.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "إذا كان لحاجة أو لمصلحة فلا بأس، فالحاجة مثل أن يريد الإنسان إثبات واقع من الوقائع ويصورها بالفيديو، والمصلحة مثل أن يصور أشياء مفيدة لأبنائه بدلاً عن التلفزيون؛ لأن كثيراً من الناس صاروا يستعملون الفيديو فيصورون أشياء تلهي الصغار وتمنعهم من النظر إلى التلفزيون وما فيه من البلاء، أما لغير ذلك فإنها مضيعة للمال ومضيعة للوقت، مضيعة للمال لأن الأشرطة هذه لها قيمة، ثم عرضها على الشاشة أيضاً له قيمة، تأخذ من الكهرباء، ثم إنها مضيعة للوقت أيضاً، وعلى هذا إذا كان فيها مصلحة دينية صار أمراً مطلوباً كما لو أردنا أن نصور محاضراً يحاضر في أمر شرعي يوجه الناس ويرشدهم هذا أمر طيب"([3])اهـ.
وقال الشيخ عبيد الجابري: "الذين يظهرون في التلفاز من الموصوفين بالعلم والفضل، هؤلاء ما يقصدون الثاني، يقصدون منفعة الناس فلا تثريب عليهم إن شاء الله تعالى"([4])اهـ.
ومن استطاع أن يربي أهله وأبناءه تربية شرعية صحيحة بحيث يستغنون عن القنوات الفضائية الشرعية فذاك، لأن جواز مثل هذه الوسائل إنما كان من باب «درء المفاسد وجلب المصالح» فإذا سلم الشخص وأهله وأبناؤه من المفسدة كان الاستغناء خيرا لهم من مشاهدتها، أما أن يمنعهم بلسانه ثم يتركهم يذهبون إلى بيوت الجيران والأقارب والأصدقاء لمشاهدة القنوات غير الشرعية فيشاهدون الغث والسمين مما يفسد الأخلاق والقيم والعقائد ويرون الرذيلة ونحوها من خلال الأفلام العربية والأجنبية فلا؛ بل عليه أن يقتني لهم تلفزيوناً ويقتصر فيه على القنوات التي تلتزم في برامجها منهج البرامج الشرعية والهادفة.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: "الذي أرى أن يوجد قناة إسلامية يتكلم بها علماء راسخون في العلم، أهل عقيدة سليمة، ويبيِّنون الحق دون مهاترات أو منازعات أو سبٍّ للآخرين، فهذه إذا وجدت نفع الله بها، وأرجو الله عز وجل أن يتحقق هذا، لأن بقاء الناس لا يشاهدون إلا ما ينشر في هذه الفضائيات المدمرة ضرر عظيم، لكن إذا وُجِدَت قناة إسلامية يتكلم فيها علماء راسخون في العلم، أقوياء في بيان الحق، فلكل سلعة مشترٍ، اهل الباطل يذهبون للباطل، وأهل الخير يذهبون إلى الخير، وإذا كانت القناة الإسلامية هذه مشيقة في العرض، وفي طرح المسائل، وفي الإجابة عن الإشكالات سوف ينصرف إليها أناس كثيرون حتى ممن لا يريدون هذا، فأسأل الله أن يحقق هذا عن قريب حتى يشتغل الناس به عن مشاهدة القنوات الفضائية الفاسدة المفسدة.
[فقال] السائل: أيكون هذا مسوغاً لمن لم يحصل على الدش أن يشتري الدش بحجة هذا؟ الجواب: نعم يشتري الدش بهذه الحجة، أليس الآن عندنا إذاعة القرآن كلها سليمة، واناس عندهم راديو وما يستمعون إلا إلى إذاعة القرآن، وما دام عندنا مصلحة محققة فالأوهام هذه مطرحة ولا عبرة بها"([5])اهـ.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
—– الحواشي ——
([1]) مجموعة من المشايخ، فتاوى إسلامية (٤/٣٦٧).
([2]) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (٩/٢١٤).
([3]) ابن عثيمين، لقاء الباب المفتوح (١٤٨).
([4]) عبيد الجابري، فتوى صوتية لفضيلته حول ظهور بعض الفضلاء على القنوات الفضائية.
([5]) ابن عثيمين، لقاء الباب المفتوح، رقم (٢١١)