الثلاثاء 5 ربيع الآخر 1446 هـ || الموافق 8 أكتوبر 2024 م


قائمة الأقسام   ||    دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية    ||    عدد المشاهدات: 5349

أمثلة من حياة السابقين وكبار العلماء عند الاختلاف
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (25)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني

لقد ضرب العلماء الربانيون ومن سار على هديهم واقتفى أثرهم أروع الأمثلة في حسن التعامل مع من اختلفوا معهم من إخوانهم المسلمين، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حرصهم لجمع الكلمة ووحدة الصف وتأليف القلوب.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:599]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين»([1] )، وإليكم هذه الأمثلة الآتية :
الأول:
جرى قتال بين طلحة وعلي رضي الله عنهما أيام الفتنة، ومع ذلك كان كل واحدٍ منهما يثني على الآخر حال غيابه؛ فقد رُوِيَ عن أبي حبيبة مولى طلحة قال: «دخلت على علي مع عمر بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل قال: فرحب به وأدناه، ثم قال: إني لأرجوا أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:47] »([2] ).
وما أحسن قول القرطبي عند أن قال: «من تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة ومن الاعتذار وما تضمن ذلك من الإنصاف عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحياناً، لكن الديانة ترد ذلك»([3] ).
الثاني:
كان زيد بن ثابت لا يرى توريث الإخوة مع وجود الجد، وكان عبد الله بن عباس يخالف مذهبه ويقول: «ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً»([4])، وقال: «لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين»([5]).
ورغم كل ذلك كان ابن عباس إذا رأى زيداً على دابته أو ناقته أسرع إليه وأخذ بخطام ناقة زيد قائلاً لزيد : هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده فقبَّلها زيد، وقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ([6]).
ولما دفن زيد، دمعت عينا ابن عباس على قبره، وقال: «هكذا ذهاب العلم، لقد دُفن اليوم علم كثير»([7]).
الثالث:
جرى قتال عظيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في موقعة صفين، فقُتل خلق كثير من خيرة الصحابة والتابعين وكانت فتنة عظيمة، ثم استتب الحكم لمعاوية رضي الله عنه، ولم يقل صحابي لآخر ممن وقع بينهم القتال : أنت لست بصحابي، ولا قال له: أنت ضال أو أنت مضل، ولكن أيقن الجميع أنها فتنة، وأن الله قد رفعها عنهم بالكفِّ عن قتال بعضهم بعضاً، ولذا اجتمعوا جميعاً رغم ما جرى بينهم، وبايعوا معاوية رضي الله عنه بعد أن تنازل الحسن بن علي له بالحكم، وواصلوا الجهاد في مشارق الأرض ومغاربها، وفتحوا الأمصار حتى بلغوا بلاد الصين.
الرابع:
جرى خلاف كبير بين عائشة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، حيث كانت في صف ابن الزبير وطلحة يوم الجمل، وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه في صف علي بن أبي طالب، ورغم ذلك الخلاف إلا أن قلوبهما وأفعالهما تعترف بفضل الآخر ومنزلته؛ فقد أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن عريب بن حميد قال: رأى عمار يوم الجمل جماعة فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجل يسب عائشة ويقع فيها، قال: فمشى إليه عمار فقال: «اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتقع في حبيبة رسول الله ؟ إنها لزوجته في الجنة »([8] ).
الخامس:
لما وصف ضرار بن حمزة الكناني عليًّا بين يدي معاوية: بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه : كذا كان أبو الحسن رحمه الله ([9] ).
السادس:
أخرج سعيد بن منصور في سننه عن علي بن حسين: «أن مروان بن الحكم قال له – وهو أمير بالمدينة – : ما رأيت أحداً أحسن غلبة من أبيك علي بن أبي طالب، ألا أحدثك عن غلبته إيانا يوم الجمل؟، قلت: الأمير أعلم، قال: لما التقينا يوم الجمل ثم حمل بعضنا على بعض، فلم ينشب أهل البصرة أن انهزموا، فصرخ صارخ لعلي: لا يقتل مدبر، ولا يذفف ([10] ) على جريح، ومن أغلق عليه باب داره فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن» ([11] ).
السابع:
ذكر الإمام الذهبي عن يونس الصدفي قال: «ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟ »([12]).
الثامن:
قال الإمام أحمد: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً»([13]).
التاسع:
وجاء عن عمر بن الخطاب وابن مسعود أنهما: اختلفا في الرجل زنى بامرأة ثم تزوجها، فيرى ابن مسعود أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا، ويرى عمر أن الزواج مانعه من تهمة بقائهما على الزنى([14]).
قلت : وهذا هو الصحيح، ومع ذلك كان كلٌّ منهما يجلُّ الآخر.
العاشر:
يقول الذهبي في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي: «وكان يرى القدر نسأل الله العفو؛ ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحرِّيه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يُغفر له زلـله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»([15]).
الحادي عشر:
قال محمد بن أحمد الفنجار: «كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب»([16]).
الثاني عشر:
عن عبد العظيم العنبري قال: كنت عند أحمد بن حنبل، وجاءه علي بن المديني راكباً على دابة، قال: فتناظرا في الشهادة وارتفعت أصواتهما، حتى خفت أن يقع بينهما جفاء، وكان أحمد يرى الشهادة وعلي يأبى ويدفع، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه([17]).
الثالث عشر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ناظر الإمام أحمد أقواماً من أهل السنة في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة، حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة»([18]).
الرابع عشر:
قال ابن القيم في سياق ثنائه على أخلاق ابن تيمية رحمه الله:
«كان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه، وما رأبته يدعو على أحد منهم قط؛ وكان يدعو لهم، وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا من الكلام، فسرُّوا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه»([19]).
الخامس عشر:
وفي العصر الحديث: اختلف العلامة ابن باز والمحدِّث الألباني في مسائل، منها: حكم الاستعانة بالكفار في حرب الخليج ضد العراق عام 1991 م، حيث يراها ابن باز للحاجة لدفع مفسدة أكبر بخلاف الألباني، واختلف العلامة حمود التويجري مع العلامة الألباني في مسائل كثيرة وتبادلوا الألفاظ القاسية من خلال مصنفاتهم.
ومع كل هذا الاختلاف بقيت علاقتهم حميمة، فإذا ذَكَرَ أحدهم ابن باز عند الألباني أجلَّه ورفع من ذكره، وإذا نقد أحدهم الألباني عند ابن باز، هرع ابن باز ببيان فضل الألباني ومكانته العلمية، ودوره في الدعوة إلى الله، ولما جاء خبر وفاة ابن باز بكى الألباني بكاء شديداً حتى أبكى من حوله.
وكان التويجري إذا علم بقدوم الألباني إلى الرياض يسرع لضيافته وحسن استقباله بفرح وسرور وبشاشة وجه، وكأنهما لم يختلفا في مسالة ، وهكذا هي عادة علماء الحق بخلاف أهل الأهواء والطرق الملتوية.
كانت تلك مجموعة من النماذج العملية لمن سبق من السلف والعلماء الربانيين عند اختلافهم، فماذا ترك الأول للآخر؟، وأين أخلاقنا من أولئك الأفاضل؟؟؟؟؟؟؟؟:
أولــئـكَ الـسَّـلـفُ الأعـلـونَ ذكـرهـــمُ **** باقٍ وإن كان ماضي عصرهم سلفا
شـريعةُ الـشرعِ فـينا بـعدهم كـــــدرتْ **** وكــم حــلا وردهـا قُـُدماً بـهم وصـفا
لـو أبـصروا كـيف حـال الـحال بعدهمْ **** رقـــوا لــنـا وأراقـــوا الأدمعَ الذرفا
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة قادمة.

——— الحواشي ——–

([1] ) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (24/172).
([2] ) أخرجه الحاكم في مستدركه (3/377).
([3] ) ابن حجر، فتح الباري (7/495).
([4] ) ابن الملقن، تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج (1/90).
([5] ) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/255 الأثر رقم 19024).
([6] ) ابن عبد البر، جامع بيان أهل العلم وفضله (1/128).
([7] ) أحرجه الحاكم في مستدركه (3/484 أثر رقم 5807).
([8] ) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2/876 برقم 1647).
([9] ) ابن عبد البر، الاستيعاب(4/1697).
([10] ) يجهز.
([11] ) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/390).
([12] ) الذهبي، سير أعلام النبلاء (10/16)، وقد علق الذهبي على الكلام المتقدم بقوله: «هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون».
([13] ) المصدر السابق (11/371).
([14] )ابن القيم، إعلام الموقعين (2/237).
([15] )الذهبي، سير أعلام النبلاء (5/271).
([16] ) المصدر السابق (10/630).
([17] ) ابن عبد البر، جامع بيان أهل العلم وفضله (2/107).
([18] ) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (6/502).
([19] ) ابن القيم، مدارج السالكين (2/695)




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام