مسألتان مهمتان تتعلقان بالعلماء وواجب الأمة نحوهم
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (31)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
هناك مسألتان مهمتان تجاوزهما البعض بسبب خلافات وفتن العصر، ومردُّها سوء الظن والأفهام الرديئة والبعد عن تطبيق منهج الشرع في المخالفين، ويجدر بنا أن نشير إليهما :
الأولى: ظن بعضهم أن كبار العلماء لا يفقهون الواقع، ولا يدركون ما يدور حولهم، وأنهم علماء سلطة رجماً بالغيب بسبب الأحداث المتكررة أو مجرد علماء أحكام فقهية فرعية لا يدركون السياسات ومصالح العباد، وأن علمهم لا يؤهلهم لمعالجة قضايا الأمة.
وهذه تهمة الضعفاء ممن غابت بصيرتهم وتاهت سريرتهم، حتى اتهموا علماءهم أولي المناقب المأثورة والفضائل المذكورة بتهم سبقهم إلى مثلها الأعاجم أبناء فارس والروم في أحبارهم ورُهبانهم، حتى أهملوا شأنهم وقدرهم، من ثَمَّ لم يعبأوا بتدينهم وما هم عليه، فطعنوا في الشهود ليتوصلوا به إلى الطعن في الدين، فإنها بذرة متهور ليوقع الأمة في التيه والانحراف.
وبعضهم يشغل نفسه بخلاف العلماء وردود بعضهم على بعض ليتخذ من ذلك سبيلاً للوقيعة فيهم، أو في من يخالف من مالت نفسه إليه تعصباً، وقد يسعى لنشر مثل هذه الردود في أوساط صغار الطلاب أو العوام بقصدٍ أو بغير قصد، وهذا من الإفساد في الأرض وإن شجعه بعض من ينتسب للعلم؛ إذ لا يسلم حتى المعلم من الهوى وحب الذات والظهور إلا من سلمه الله.
قال التاج السبكي: «ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أُتي ببرهان واضح، ثم إنْ قدرت على التأويل وحسن الظن فدونك وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم»([1]).
ثم هؤلاء أصناف؛ فمنهم المتعمد الجاهل، ومنهم صاحب النية الحسنة ممن خانته بصيرته، ومنهم المنحرف، ومنهم المتحزب، ومنهم الضال المبتدع، ومنهم المتعصب والعنصري، ومنهم المغفل، ومنهم غير ذلك طرائق قدداً، إلا أن هذا النوع وإن تعددت أصنافه واقع في سوء الظن أو الظلم لا محالة، وأفعالهم هذه مذمومة لا تبلغ بهم شرفاً ولا تأويهم منزلاً، فكم ضلالات اندثرت ومعالم انطمست، قام أصحابها على فُحش من القول وسوءٍ من الظن، وما هي إلا أيام حتى تبدَّدت تلكم الغشاوة وذلكم السراب.
وهكذا ينتهي غبار المتهورين، ولن يبقى إلا نور المتنورين أعلام الهدى ومصابيح الدجى ومن سار سيرهم وحذا حذوهم.
الناس شتى إذا ما أنت ذقتُهمُ لا يستوون كما لا يستوي الشجرُ
هذا له ثمرٌ حـــلوٌ مـــذاقتُـــهُ وذاك ليس لــــه طعــــمٌ ولا ثمــــرُ
الثانية: ظن بعض الأقوام أن المخالف له حلال العرض؛ فوقع من لا خلاق له في أعراض العلماء وطلبة العلم وعامة الناس، دون تعقل أو روية؛ بل دون مراقبة الحي القيوم العليم بكل شيء: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء:218،219].
والأصل في الأعراض التحريم اتفاقاً، إلا أن ضعفاء الإيمان ممن لم يدركوا حقوق الأخوة الإيمانية وقعوا فيما ما هو محرم شرعاً، ظنا منهم أن ذاك يقربهم إلى الله. ولكن هيهات هيهات، فما ظنوه سوءٌ محض لا يقربهم إلى الله زُلفى، إلا أن الشيطان يزين للخلائق وضعفاء البصائر المنكرات بأجمل الحلل وأزين البهارج، ولكن أنَّى لأمثال هذا الصنف من زلفى؟!
سارت مشرِّقة وسِرتُ مُغرِّبا شتَّان بين مشرِّقٍ ومُغرِّبِ
إنما الجائز – بل الواجب – ما كان تحديراً من البدعة والمبتدع المعاند البيِّن بدعته والضال البين ضلاله مما هو مخالف ما عليه أصول أهل السنة والجماعة؛ حتى لا يضر المجتمعات الإسلامية ببدعته وضلاله مع حفظ حرمته الشرعية.
قال الفضيل بن عياض: «والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟!»([2])، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه»([3]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([4]).
ويُروى عن أبي هريرة أنه قال: «يُبصِرُ أحدُكم القَذَاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْعَ، أو الجِذْلَ، في عينه»([5]).
قال ابن القيم: «وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم – ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول!!»([6]).
فلا فلاح للمجتمعات بمختلف طبقاتها ما انتشرت في أوساطها الظنون السيئة والاختلافات المبنية على الهوى؛ بل لن تبلغ ذرة الإخاء والإيمان حتى تحقق فرائض الأعمال وفضائلها، وتحذر من سفسافها بمحض إرادتها وعقد عزيمتها تقربا لله وحده دونما سواه ([7]).
فحنانيك أخي الكريم بالأمة وأفراد المجتمع؛ فصلاحُهم بالكلمة الطيبة وطلاقة الوجه والرحمة والتسامح وخفض الجناح ولين الخطاب، لا بالقسوة وعباسة الوجه والترفع وقسوة الخطاب.
فليس هناك معصوم من الأخطاء غير الأنبياء:
من ذا الذي ما ساء قطْ ومن له الحسنى فقطْ
فلينُوا مع الصغير والكبير، ولا تكونوا جبابرةً يَغلبُ جهلُكم حلمَكم.
وصلوا من قطعكم، وأعطوا من حرمكم، واحلموا عمَّن جهل عليكم، وابتغوا الشرف والسؤدد والرفعة من الله وحده، واحفظوا حق علمائكم، ولتكن صدوركم دولة واسعة لقبول النقد، وتقديمه لمجتمعكم في أحسن لباس.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية أستأنفه في لقاء قادم بإذن الله.
—– الحواشي —–
([1]) السبكي، قاعدة في الجرح والتعديل (ص93).
([2]) الخرائطي، المنتقى من مكارم الأخلاق ومعاليها (1/92)، ونقله الزمخشري في الكشاف (3/569).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (4/1987 رقم 2564)] من حديث أبي هريرة.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (1/13 حديث رقم 10)].
([5]) أبو الشيخ، أمثال الحديث (ص77). ويرى الألباني ثبوت رفعه ووقفه معا كما في صحيح الأدب المفرد وصحيح الترغيب والترهيب.
([6]) ابن القيم، الجواب الكافي(1/111).
([7]) انظر كتابنا روابط الأخوة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة (ص127-132)، طبعة دار الفضيلة بالرياض.